قال رحمه الله تعالى: (وقال تعالى: (( قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ))[الحجرات:14]، وقد تقدم الكلام على هذه الآية، وأنهم ليسوا منافقين على أصح القولين)، إذ إن هذه الآية ليست في المنافقين؛ لأنه كما تقدم القول بأن من أهل السنة من يقول: إن الإيمان والإسلام بمعنى واحد، وعلى هذا قالوا: إن هذه الآية في المنافقين، والإمام البخاري رحمه الله جعل عنوان الباب في هذه الآية: (باب: إذا كان الإسلام على الاستسلام وليس على الحقيقة). فجعله مجرد استسلام، وكأن قولهم: (أسلمنا) أي: استسلمنا فقط، وليس على حقيقة الإسلام؛ لأن حقيقة الإسلام عنده هي حقيقة الإيمان، إذ لا فرق بينهما عنده، لكن هذا القول مرجوح، والقول الراجح الذي عليه عامة السلف وأهل السنة والجماعة : أن الإسلام مرتبة ودرجة دون الإيمان، وعليه فإنه يصح أن تنفي عن أحد الإيمان وتثبت له الإسلام، وعلى هذا جاءت الآية، وهي دليل على ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا ))[الحجرات:14]، فالدعوى التي ادعوها هي: دعوى الإيمان، ثم قال: (( قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ))[الحجرات:14]، فنفى عنهم الإيمان، ثم أرشدهم إلى ما ينبغي أن يقولوا فقال: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا)، ثم أوضح ذلك بقوله: (( وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ))[الحجرات:14]، فدل على أن الإيمان مرتبة ودرجة أعلى، وأنهم إن ثبتوا على الإسلام، والتزموا شرائعه، وازداد إيمانهم، فإنهم سيصلون إلى مرتبة الإيمان بإذن الله، ولهذا قال: و(لما)، وهي تختلف عن: (لم)؛ لأن (لم) للنفي المطلق، فهي تدخل على الفعل المضارع فتجعل معناه ماضياً، فإذا قلت: لم يقم زيد، فكأنك قلت: ما قام زيد فجعلت معناه ماضياً، أما إذا قلت: لما يقم زيد، فالمضارع على بابه، والقيام قريب يوشك أن يقع.
إذاً هو أثبت لهم الإسلام ويوشك أن يدخل الإيمان في قلوبهم، وعلى هذا ليسوا بمنافقين، وبالتالي قد لا يكون في الآية شاهد إلا على القول الآخر، أي: أنه يجتمع النفاق والإيمان، لكن الحديث صريح في هذا: ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خلة -خصلة- منهن كانت فيه خلة من النفاق حتى يدعها )، فإذا تركها فإنه يرجع إلى استكمال وصف الإيمان، وينتفي عنه وصف النفاق، إذاً هو من جهة مؤمن باعتبار إيمانه بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر، ومنافق من جهة قيام هذه الشعبة به، ولذلك قال: ( إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر )، وفي رواية: ( وإذا اؤتمن خان ) فذكر هذه الصفات وهي في الأخلاق، وفي المعاملة، ولا يمكن لمؤمن على الحقيقة أن تجتمع فيه هذه الخلال، وأن يستديمها، وأن تصبح خلقاً له، أي: أنه قد يخلف الوعد مرة، أو يكذب مرة، أو يخون مرة، وهذا وارد في البشر، لكن أن يتطبع بها العبد فتكون فيه هذه الأربع الخصال؛ فإنه والعياذ بالله منافق تمحض قلبه للنفاق، بغض النظر أنه بهذا التمحض قد خرج من الملة أو لم يخرج، إذ ليس المقصود من هذا الحديث بيان ذلك؛ لأن هذه أصلاً من الأمور التي ليست مما يجري به الحكم الظاهر، وإنما هي أمر باطن، والأمور الباطنة علمها عند الله، ومن الصعب لو أردت أن تحكم ظاهراً أن تجزم بأن هذا الإنسان متطبع بهذه الطباع الأربع في كل أخلاقه وأعماله وأقواله، ولذلك يعد من كان هذا شأنه من المنافقين، والمنافقون يأخذون في الدنيا أحكام من كان في دار الإسلام ممن يظهر الإسلام، ولذلك نقول: الشاهد من هذا: أنه يمكن أن يكون في الإنسان ما يوالي وما يعادي معاً، فهذا الذي فيه هذه الخصلة نواليه من جهة أنه مؤمن، ولكن نبغضه ونعاديه من جهة أن فيه هذه الخصلة، وليس معنى العداوة: المقاتلة مثلاً أو التشهير، وإنما المقصود أن هناك جانباً مقابلاً للجانب الآخر، فهنا جانب محبة يقابله جانب بغض، أي: لا تعطيه المحبة والولاء والحقوق الكاملة التي هي حق للمسلم على أخيه؛ لأن هذه الخلة أو هذه الخصلة عائق عن تحقيق الكمال له، فإذا كانت فيه إحدى هذه الخصال أو إحدى هذه الخلال؛ فإن حقه عليك ينقص بمقدار ذلك، حتى لو أنك رأيت أن من أدام هذه الخصلة أو نحوها، فقد ترى مثلاً أنك لا تبدأه بسلام إذا كان ذلك أدعى للحكمة ولمصلحته، وأن ينزجر ويكف عما هو عليه، أو لا تحسن إليه بعض الإحسان الذي تحسن به إلى غيره من المسلمين، أو إن مرض لا تعوده، أو إن مات لا تشهد جنازته -المهم الحقوق التي جعلها الشرع- كل هذا بسبب الخصلة الموجودة فيه؛ فإن هذا جائر، وأنت في حل من أن تلتزم له بحق المسلم على المسلم، فإذاً من جهة تحبه ومن جهة تبغضه، من جهة تعطيه بعض الحقوق ومن جهة تمنع عنه بعض حقه، وهذا من مقتضى العدل والإحسان الذي أمر الله به في كل شيء، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء -حتى في أشد الأمور إيلاماً- فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة )، وهي إيلام، وهي غاية ما يمكن أن يقع بالحيوان من الألم، ومع ذلك أُمر الإنسان أن يحد شفرته فقال: ( وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته )، وعليه فالعدل مأمور به ومطلوب في كل شيء، ومن العدل أن لا تعامل من فيه خصلة من هذه الخصال معاملة الذي لا ولاية له مطلقاً، أو أن تعامله معاملة المؤمن الطاهر التقي النقي الذي يخلو من هذه الصفات المذمومة.